"حياةُ السود تَهمُنّي":نُصرةً للآخَر وحمايةً للنفس!

سلسلة الهوية والاندماج

المكان: كولومبس، وسط البلد (downtown) أمام "مبنى الولاية"

الزمان: شهر يوليو 2020

الحدث: مظاهرة "حياة السود مهمة" (Black Lives Matter)

برغم الإرهاق والحر وشبح كورونا، كانت مشاركتي وابني، عبدالرحمن، في مسيرة مناهضة لاضطهاد السود على يد الشرطة الأمريكية مصدر فخر لنا واعتزاز ونوعا من راحة الضمير بأننا قد قمنا بفعل شيء مهما كان رمزيا أمام هذا الكم الهائل والمتراكم من الظلم من حولنا! وبالرغم من أن عبدالرحمن كان هو صاحب المبادرة، إلا أن حضوري معه أنشأ في ذهني خاطرة جديدة في سلسلة تربية أولادنا ليقودوا حياة أكثر ثقة وجرأة وفاعلية في المجتمع الأمريكي. هذه الخاطرة تتمثل في عدم منعهم بل وتشجيعهم على أن ينخرطوا في النشاط المدني وممارسة حقوقهم المدنية والسياسية كاملةً كما كفلها الدستور الأمريكي لكل مواطن أمريكي بغض النظر عن لونه أو دينه.

أعود إلى مظاهرة الاحتجاج والتي كانت سلمية ومنظمة تضم أطيافا متنوعة من البيض والسود والآسيويين وبعض العرب. كان المنظمون يصطفون على جانب طريق المسيرة يعرضون مجانا قنان الماء البارد لمواجهة الجو الحار، وكمامات للحماية من كورونا، ومرهم حماية الجلد من أشعة الشمس، واستمارات التسجيل للتصويت استعدادا لموسم الانتخابات القادم.

لاحظت عددا من المسلمات من خلفيات ثقافية وعرقية مختلفة... فهنا مجموعة من فتيات يمشين معا ويهتفن مع الجموع "حياة السود تعني الكثير" و "لا سلام بدون عدالة" و "لا أستطيع أن أتنفس"، وهي عبارة جورج فلويد الأخيرة التي كان يرددها وركبة الشرطي الأبيض تضغط على رقبته. خمنت أنهن أمريكيات من أصل صومالي لأن الجالية الصومالية في مدينة كولومبس هي ثاني أكبر جالية صومالية في الولايات المتحدة. وهناك محجبة تمشي برفقة زوجها والذي كان ممسكا بطفل صغير يحاول الإفلات من قبضته للانطلاق في زحمة الجموع بينما هي تدفع عربة بها طفل رضيع مستسلما لنوم عميق رغم الهتافات من حوله! أدركت من اللهجة عند السلام وعبارات السؤال عن الحال العابرة أنهم من أصول شامية. وهناك ذلك الشاب الأسود الذي ألقى علي تحية السلام وشكرني على المشاركة بلغة عربية ذات لكنة. ربما كان أحد طلاب اللغة العربية يحاول خارج الجامعة ممارسة ما تعلمه في صفوفها. أو ربما كان من أصول افريقية ذات خلفية إسلامية-عربية.

شعرت بالحماس وأنا أحدث نفسي: ما أجمل أن تشارك جاليتنا في الدفاع عن العدالة والمساواة في البلد الذي استقبل أفرادها وأصبحوا من مواطنيه! إن المشاركة المدنية هي من أهم ما يمكن أن يقدمه العرب الأمريكان لبلدهم الجديد الذي لجأ إليه الكثير منهم هربا من الاضطهاد والظلم والفقر ومآسي الحرب وبحثا عن العلم وفرص النماء الاقتصادي والمعرفي.

في موجة هجرتهم الثالثة، قدم الملايين من العرب إلى أمريكا منذ ستينيات القرن الماضي لأسباب مختلفة، واستطاع الكثير منهم تأسيس حياة مستقرة اجتماعيا ومزدهرة أكاديميا واقتصاديا ومهنيا. ويبدو أن الوقت قد حان لتقوم جاليتنا بالخروج من عزلتها وسلبيتها وتخوفها من المجتمع الكبير حولها وأن تبدأ بالانخراط في حركة تحقيق العدالة الاجتماعية وتوطيد قيم وثقافة المساواة والحرية والكرامة الإنسانية.

ولكي يكون توجيهنا لأولادنا بالمساهمة في "المشاركة المدنية" فعالا ومثمرا، ينبغي أولا أن نكون نحن على بصيرة بما يعنيه هذا المصطلح. إنه باختصار، يشير إلى جهود الأفراد والمجموعات المدنية لتحديد المشاكل والأزمات التي يعاني منها المجتمع عامة، بما فيه جالياتنا، والعمل الجمعي التعاوني للحد من هذه المشاكل وإيجاد حلول عملية لها. أمثلة لأنشطة المشاركة المدنية والتي يسمح بها الدستور الأمريكي وتتفق قلبا وقالبا مع تطلعاتنا لمستقبل مشرق لأولادنا تشمل:

  • اكتساب الوعي السياسي عن طبيعة وتجاذبات العملية السياسية في الولايات المتحدة
  • الانتخاب السياسي لإيصال السياسيين الراغبين والقادرين على التغيير الإيجابي ومناصرة حقوق الأقليات المهمشة إلى مواقع سياسية مؤثرة، (ومن المعروف أن أصوات الناخبين المسلمين في فلوريدا كانت قد ساهمت في ترجيح كفة جورج بوش الابن على كفة آل جور مرشح الديمقراطيين في انتخابات 2000!) ،
  • الأنشطة الخيرية التطوعية لتضييق الهوة بين الأثرياء والفقراء وتعزيز العدالة الاجتماعية،
  • التفاعل الإيجابي والواثق مع مختلف الطوائف الدينية والعرقية لمد جسور التفاهم والتعاون فيما نتفق عليه من قيم إنسانية عامة وتقديم مشروعنا الحضاري بدون تشويه وتزييف،
  • التبرع بالوقت وبالمال للمؤسسات المدنية التي تهدف إلى العدالة الاجتماعية وحماية الحريات والحقوق
  • الاحتجاج السلمي على مظاهر الظلم والقهر والاستغلال الموجه للفئات المهمشة والمستضعفة

إن مفهوم المشاركة المدنية كجهد جماعي يتولد من مسؤولية المواطنة، وهي مفقودة إلى حد كبير في بلداننا العربية، فيجب علينا ألا نورث أبناءنا هذا النقص. بالرجوع إلى نظريات علم الاجتماع، نجد أن المشاركة المدنية تسرّع من عملية توطين واندماج أبناء المهاجرين لعدة أسباب، منها بناء علاقة الثقة بينهم وبين المجتمع الكبير، والاحتكاك والتداخل مع أفراد التيار السائد، وخلق شعور الانتماء لمسقط رأسهم ومهجر آبائهم، وتشكيل مفهوم مسؤولية المواطنة الجمعية الطوعية لديهم، وعقد علاقات وظيفية - أو ما يسمى "رأس المال الاجتماعي" - تمكنهم من فرص اقتصادية ومعرفية لم تكن لتتوفر لهم خارج شبكات العمل التطوعي، وإيصال أصواتهم فيما يتعلق بحاجاتهم ومشاكلهم للسلطات عبر هذه الشبكات.

وفي تراثنا نجد تأصيلا للمشاركة المدنية مع المسلمين وغيرهم، حيث اجتهد الرسول عليه السلام في مشاركة المجتمع القرشي مسعاه لفرض العدل ولنصرة المظلوم، كما حدث في حلف الفضول، أحد مفاخر العرب قبل الإسلام. وأحيل القارئ إلى السيرة النبوية لمعرفة تفاصيل هذا الحلف وأكتفي هنا بالإشارة إليه كتجمعا وميثاقا إنسانيا تحالف فيه أناس مختلفون جمعتهم المشاعر الإنسانية في إغاثة الملهوف وحمية الحق. وقد تذكره الرسول عليه السلام بالرضا حين قال: "ما أحب أن لي به حمر النعم، ولو دعيت به في الإسلام لأجبت".

إن مشاركة جاليتنا المدنية وكسرها لعزلتها السياسية ليست فقط امتحان لقيمنا الأخلاقية في نصرة المظلومين من الأمريكان من أصول افريقية، ولكنها فرصة لنا أيضا تُمكنا من الدفاع عن حقوقنا نحن والحد من ضرر وشر التعصب العرقي والديني الذي يطالنا بصورة أو بأخرى، فإن تكاتف الأقليات إلى جانب المنصفين والعقلاء من الغالبية هو مصلحة وحماية للجميع. وواجبنا كآباء أن نوضح لأبنائنا بطريقة لا تخويف فيها ولا تهويل أننا في أمس الحاجة إلى تعزيز المؤسسات المدنية للدفاع عن حقوقنا بعيدا عن التقوقع أو الاستكانة إلى دور الضحية. ﻻ يثنيهم عن ذلك كونهم من الأقليات، فما أمريكا إلا بلد المهاجرين بدءا من أفواج القادمين من أوروبا في القرن الخامس عشر - ومن أجبر على القدوم من أفريقيا في أوسع عملية استعباد عرفتها البشرية - وانتهاء بموجات اللاجئين والذين ما زالت أعدادا منهم تصل الولايات المتحدة وإن كان أقل بكثير في عهد الإدارة الحالية المعروفة بتوجهاتها العنصرية والمتعصبة ضد غير البيض وغير المسيحيين.

إن بذلنا جزءا من وقتنا وإمكانياتنا في ممارسة المشاركة المدنية وتربية أولادنا على ضرورتها هو جهد مثمر من نواح عدة، أهمها أنه ركيزة لا غنى عنها في بناء اندماجهم ونجاحهم في المجتمع الكبير. ولن يتسنى لنا ولهم صياغة تصور إيجابي عن المشاركة المدنية وأهميتها لمستقبلهم حتى ننهي "أسطورة العودة" في أنفسنا ونؤمن أننا هنا لا كمهاجرين مؤقتين ينتظرون بـ "عقلية الرحالة" عودتهم إلى أوطانهم الأصلية، ولكن كجزء مكمل لديه الكثير مما يقدمه لبلده الجديد. ولا أبلغ في التعبير عن هذا المعنى من وصف الدكتور ماهر حتحوت، رحمه الله، لهجرته بقوله: "أتيت أمريكا عالماً أن الوطن ليس حيثما دفن جدي، بل حيث يمكن أن ينشأ حفيدي".

[email protected]

مقالات ذات صلة

أفضل 10 مستشفيات أطفال في الولايات المتحدة

أوهايو تقيّد وصول القاصرين إلى منصات التواصل الاجتماعي

اختيار المحرر

10 ملايين شخص سجلوا في تطبيق ثريدز (Threads) في 7 ساعات

أفضل 10 أماكن للعيش فيها للمحترفين الشباب في أمريكا

موضوعات متنوعة

الصورة

الجواز الأمريكي في المرتبة الثامنة و 27 دولة لديها جوازات سفر أقوى

الصورة

أمريكا تشهد أسوأ انخفاض في متوسط العمر المتوقع منذ مائة عام

الصورة

اعتراف رئاسي تاريخي بالأمريكيين العرب واعتذار عن التحيز ضدهم

الصورة
خارطة الولايات المتحدة الأمريكية

ما هي الولايات الأكثر شعبية للانتقال إليها في عام 2022 ؟

الصورة
أمريكا - تأشيرة الزيارة

ما تحتاج لمعرفته حول مقابلات تأشيرة الزيارة إلى أمريكا

الصورة

نصف الهجمات الجماعية في أمريكا كانت بدافع الخلافات