لطالما كانت الجغرافيا بالنسبة لي مُلْتَبَسَة.
كنا نسكن في ضواحي مدينة عمّان، فجأة ودون مقدمات كافية، سمعت أحدهم يقول لي: أنتَ من الكرك.
كنتُ صغيرًا جدًا آنذاك، أعيش على الخيال، لذا رحت أبحث عن الكرك في كل شيء: أناشيد المدرسة، نشرة أخبار الثامنة، صور الجريدة، ووجوه زوّار بيتنا الصغير.
كان لي عشرات الأعمام، أو هكذا كنت أظن من كثرة ما كنت اسمع عبارات مثل: قوم قعّد عمك، روح جيب لعمك، احمل عن عمك!
يا للهول؛ كانت أعمالا شاقة، مضافا إليها الخوف من ارتكاب الأخطاء، حيث لا مكان للهروب من أعين الأعمام والخالات، فكل جاراتنا خالات: أم محمد، أم السعيد، أم خليل.. ضعوا ما شئتم من الأسماء، الرقابة في كل اتجاه.. والوشاية سهلة...
كانت حدود الجغرافيا التي أعرفها تبدأ من الملعب الترابي إلى سور المدرسة، ومن بيت أبو طلال إلى حدود دكانة أبو أيمن.. تتسع الحدود كلما هربنا الى التلة المجاورة لإشعال النار؛ نعم يا أصدقاء.. غاية الأطفال للضوء لا تنطفئ!
في صيف ذلك العام، سمعت والدي فيصل وهو ينادي على أمي مريم: جهّزي الأولاد، بكرة طالعين على الكرك!
استعرت عبارة من فيلم كرتوني مشهور: وجدتها.. اليابسة.. اليابسة! وكأنني هربت من موج البحر.
لكنني صفنت في كلمة "طالعين"، ظننت الكرك مكانًا يسكن في أعلى الجبل، و بدأت أتخيل الطريق إلى هناك... حتى جاء الوقت الذي صرت فيه بمواجهة الصحراء، على مقربة من الرمال التي تقرأ طالع الشمس واجابات الوجود.
غفوت في الطريق، سمعتهم يتحدثون عن العُرس، النقوط، الهدايا، وعن سالم... كان مشروعًا هائلًا، انتهت الكلمات حين صحوت على رائحة الطوابين التي حلّت في ذاكرتي إلى الأبد، يا لهذه الرائحة، كيف لا يأتي الموتى إلى هنا كي يرجعون!
هكذا أوحت الدهشة للطفل آنذاك.
بدأنا بالسلام على وجوه الخير، وتعرفنا على أعمام جدد وخالات جديدات، وقبل أن أحفظ أسماء أي منهم، وجدت نفسي أقوم بدور حارس المرمى في فريق "المدينة"، لقد اعتبروني من عمّان، وكنت سعيدًا بهذه الترقية.
بدأت بالتعرف على قرية الثَنِيَّةِ في الكرك، قرية أجدادي المبيضين واخوانهم الغساسنة، هناك حيث تعلمت كيف يوقظ القمح أبناء البلاد من غفوة نسيانهم الطويل!
في اليوم التالي، صعدت القلعة، أكبر ما رأيته في حياتي، ومن أمامي أفق بعيد...
هناك، سمعت قصّة جدّي إبراهيم الذي غادر إلى القاهرة ليعود منها بأوّل "ليسانس" في زمن الإمارة سنة 1926، بعد أربع سنوات، التقى خلالها كبار أدباء مصر ومفكريها، حيث كتب في صحفها ونشر قصائده الأولى.
عاد إبراهيم من القاهرة إلى البلاد، وخدم في مدنها وقراها حتّى استقر أخيرًا في حيّ الأرمن بجبل الأشرفية في عمّان، كانت رحلة مأهولة بالتعب والحنين والذكريات.
ما زلت أذكر زيارتي الأخيرة له، سألني عن إعراب: بلادي بلادي.. لقد احمرَّ وجهي وتُهْتُ في حاجبيه إلى الأبد!
مرّت الأيام... سافرت إلى بلاد كثيرة في إفريقيا، أوروبا، أمريكيا، وآسيا.. وركبت سفن كبيرة، وقاربًا صغيرًا كنت أخشى أن يغرق قبل أن أكتب هذا النص.
كنت محظوظًا بتكوين الصداقات حيثما رحلت، كان أقرب الأصدقاء إلى قلبي إبراهيم الصومالي، سميّ جدّى، كان يتحدث العربية الركيكة، ويتمتع بروح مرحة، وكان معروفًا بقدرته على لعن السياسة.
أذكر أني استشرته فيما إذا كنت بحاجة لحلاقة شعري الكثيف أم الانتظار لآخر الأسبوع، قال لي بلهجة جادة: عبد الله، اذهب إلى الحلّاق، وتحدث معه بصراحة.. ضحكت من قلبي كما لم أضحك من بعد.
نصحني بالصراحة.. يا للمفارقة.
الجغرافيا يا أصدقائي مُلتبسة، وغاية الأطفال للضوء لا تنطفئ، والضوء هناك؛ حيث يوقظ القمح أبناء البلاد من غفوة نسيانهم الطويل.