كنت عندما أزور بعض أسر أصدقائي العرب الأمريكان والذين يعتبرون من الجيل الثاني وأبناؤهم من الجيل الثالث، أتعجب من حرصهم على ترديد كلمة (I Love You) لبعضهم البعض وكأنها تحية يومية يلزمون أنفسهم بتبادلها عند الدخول والخروج وعند اللقاء والافتراق وعند إنهاء المكالمات الهاتفية!
في البداية شعرت أن ذلك كان نوعا من التكلف لأن المجتمعات التي نشأنا فيها والموصوفة (بشكل عام) بروابطها الأسرية بل والعائلية الممتدة القوية والمتماسكة يقل في أسرها مثل هذا الإفصاح عن الحب بين أفرادها، إذ كيف يؤكد ما هو في نظرنا بديهي ومفهوم بلا حاجة للنطق به؟ أو ربما ما يمكن الإفصاح عنه بصيغ تعبيرية مختلفة (مثل عبارة "جُعلت فداك" والتي تنتشر في اليمن) أو بطرق عملية صامتة اللفظ مشبعة المعنى؟
ولا أخفي على القارئ أنني ما زلت إلى الآن أعتبر ذلك تقليدا غير ضروري لممارسات ثقافية "أمريكية" وأن التعبير عن الحب بهذا القدر من التكرار قد يفقده قيمته ويجعله "روتينيا" فاقدا للمعنى وخاليا من الأصالة. وعلى الرغم من هذا، وباعتبار دراساتي في علم الاجتماع، أعدت النظر في هذا النوع من المعاملة الاجتماعية الأسرية بعيني باحثة تحاول فهم وتحليل السلوك الاجتماعي مع تنحية الميول الشخصية والخلفيات الثقافية الذاتية جانبا قدر الإمكان... وخلصت - في ضوء أدبيات علم اجتماع الهجرة والاندماج - إلى أن هذا السلوك هو مظهر من مظاهر اندماج الآباء في ثقافة المجتمع الأمريكي وربما تعويض أبنائهم عما افتقدوه هم في طفولتهم، لكن الأهم أنه يأتي في إطار محاولاتهم لإكساب أولادهم ثقة بأنفسهم يتسلحون بها في مواجهة تحديات تشكيل هويتهم كعرب أمريكان والتغلب على عقبات اندماجهم في المجتمع الأمريكي.
كتبت في المقال الماضي كيف ترهق أبناءنا (ذوي المواطنة المزدوجة العربية/الأمريكية) أزمة الهوية (من نحن) حتى وإن لم يستطيعوا إدراكها في أنفسهم أو التعبير عنها لذويهم. ولكن بالإضافة إلى معركة الهوية والتي تدور رحاها غالبا بين جوانحهم هناك معركة أخرى خارجية يخوضونها يوميا في أماكن الدراسة والعمل والترفيه والتسوق والمرافق الحكومية وغيرها من مساحات الفضاء العام يكافحون فيها من أجل إثبات مواطنتهم وحقوقهم في مجتمع تتزايد فيه تيارات العنصرية والتحيزات ضد "الأجانب" وخاصة ذوي الأصول العربية والمسلمة.
ولكن ما علاقة التأكيد المستمر على حبنا لأولادنا في التخفيف من معاناة هويتهم واندماجهم بل والخروج منها بأكبر قدر من النتائج الإيجابية نفسيا واجتماعيا؟
لا أبالغ إذا زعمت أن أساس انطلاق الأبناء ونجاحهم في مواجهة تحديات الهوية والاندماج بسلام نفسي وجرأة هو حصولهم على قدرٍ كافٍ من التغذية العاطفية داخل الأسرة. هذا النوع من الزاد العاطفي يتوفر عندما يُشعِر الآباء والأمهات أولادهم بأنهم محل حب وثقة، فينشأ الطفل واثقا من نفسه ومُحَرَّرا من مخاوف عدم التقبل والحب من قِبَل أهم وأقرب الناس إليه، الوالدين.
تثبت الأبحاث العلمية أن إظهار الوالدين لأولادهم الحب والحنان بالتقبيل والاحتضان والنظرات الراضية والكلمات الودودة يؤدي إلى نتائج إيجابية طويلة المدى في حياة ومستقبل هؤلاء الأبناء. فعلى سبيل المثال، وفي دراسة طولية أجرتها جامعة دوك نشرت في 2010 وتابعت فيها 500 فرد منذ طفولتهم حتى بلوغهم سن الثلاثين، وُجِد أن هناك رابط وثيق بين إظهار الوالدين، وخاصة الأمهات، حبهم لأطفالهم وبين النمو والصحة العاطفية لهؤلاء الأولاد واتصاف شخصياتهم في مرحلة البلوغ بالسعادة والاتزان والمثابرة وسرعة التكيف مع الظروف من حولهم، وبالتالي تفوقهم الدراسي والمهني.
وإذا عدنا إلى تراثنا نجد نصوصا متنوعة وذات دلالات نفسية واجتماعية عميقة تحثنا على إبداء حبنا لبعضنا البعض بشكل عام ولأفراد أُسرنا بشكل خاص. منها أن "رجلاً كان عند النبي صلى الله عليه وسلم فمرّ به آخر فقال يا رسول الله: إني لَأحبُ هذا، فسأله النبي: أعْلمته؟ قال: لا، قال: أعْلِمه. قال: فلحقه فقال: إني أحبك في الله". وأنه عليه السلام أخذ بيد معاذ بن جبل وقال: "يا معاذ، والله إني لأحبك" وإذا كان الأمر كذلك بالنسبة للبوح بمشاعرنا للأحبة بدون صلة قرابة فإن الأقربين أولى بالمعروف. فقد روي أن أحد الأعراب رأى الرسول يقبل الحسن، فقال: إن لي عشرة من الولد ما قَبَّلتُ واحدا منهم، فقال النبي "وما أملك لك إن كان الله نزع الرحمة من قلبك". ومن رقته ومعاملته الأطفال بالرحمة والمحبة والحكمة أنه كان عليه السلام يصلي فتأتي حفيدته “أُمامة” فترقى على كتفه وهو يصلي فإذا قام رفعها وإذا سجد وضعها!
فهل تتفقون معي أن هناك جفاف عاطفي في أسرنا والتي يندر فيها توددنا لأبنائنا بكلمة حب أو نظرة حنان أو عناق رحمة؟ وبرأيكم هل يرجع ذلك لأسباب متأصلة في الثقافة والبيئة العربية من اعتبار هذا الحب من المُسلَّمات التي لا حاجة للإفصاح عنها؟ أو لركون الوالدين هناك إلى أعضاء الأسرة الممتدة (الجدات/الجدود والعمات/الأعمام والخالات/الأخوال) كمصادر تعويضية بديلة في حالة تقصيرهم العاطفي تجاه أبنائهم؟ أم هو الاعتقاد بأن البوح العاطفي لأبنائنا يفسدهم (مع أن الجمع بتوازن بين التربية والتوجيه بحزم مع الإبقاء على مظاهر الحب ممكن وأكثر فعالية من التربية الجافة عاطفيا)؟
فلنراجع أسباب النضوب العاطفي في أسرنا، وليسأل كلٌ منا نفسه:
- كم مرة عانقنا وقبلنا أبناءنا وأخبرناهم أننا نحبهم؟
- هل اقتدينا بالرسول عليه السلام في إظهار الحب وتقديمه على الأوامر والنواهي؟
- هل نهتم بتغذية أبنائنا العاطفية كاهتمامنا بتوفر وجودة وتنوع تغذيتهم الجسدية؟
هذه أسئلة جوهرية لو أردنا لهم النجاح والتميز في حياتهم مع التمسك بثقة واطمئنان بثوابت ومحاسن ثقافتهم الأصلية.
للتواصل مع الدكتورة نهلة: [email protected]
المصادر:
1 http://www.cnn.com/2010/HEALTH/07/26/mother.affection.anxiety/
https://www.gottman.com/blog/how-a-parents-affection-shapes-a-childs-happiness-for-life/