في خضم الحرب الأهلية الدائرة بين ولايات الشمال في أمريكا المناهضة للاسترقاق، وولايات الجنوب المؤيدة، عام 1862، التقت الكاتبة الأمريكية هارييت بيتشر ستو، مؤلفة رواية "كوخ العم توم" بالرئيس الأمريكي إبراهام لنكولن، وكان لقاءهما الوحيد، وفي استقبالها قال لها الرئيس "إنني سعيد بأن أرحب بمؤلفة القصة التي أحدثت هذه الحرب العظيمة".
يقول البعض، إن هذه الحكاية محض اختلاق، لكنها تصف بالفعل الشهرة التي حظيت بها الرواية، والتأثير الذي أحدثته في المجتمع الأمريكي في تلك الظروف، التي كانت العبودية فيها قضية مثيرة للجدل، كانت الرواية سببًا رئيسيًّا لاشتعال الحرب الأهلية في أمريكا؛ فقد اقتربت هارييت جدًّا من عالم العبيد، واستطاعت أن تجسد ببراعة معاناة السود. والثابت الذي تفيد به الوثائق الخاصة بمكتبة الكونجرس أن الرئيس إبراهام لينكولن قد استعار الرواية في 16 يونيو (حزيران) 1862، وأعادها بعد 43 يومًا؛ ما يعني أنه اطلع عليها قبل إعلان تحرير العبيد في سبتمبر (أيلول) عام 1862.
"الجميع قرأها أو على وشك قراءتها".. آلاف النسخ تباع من الرواية
باعت رواية كوخ العم توم 10 آلاف نسخة في الأسبوع الأول لصدورها، وفي الأسبوع السادس كتبت صحيفة "بوسطن مورنينج بوست" أن "الجميع قد قرأها، أو يقرأها، أو على وشك قراءتها" وأن هناك حاجة إلى 17 طابعة تعمل على مدار اليوم بأكمله لتلبية الطلب.
وحققت الرواية أكثر من 300 ألف نسخة في السنة الأولى. وفتحت المجال في الصناعة لألعاب، وتماثيل، ومناديل، وصور لشخصياتها، حققت مبيعات بالآلاف. وأصبح هروب إليزا – إحدى شخصيات الرواية- عبر جليد نهر أوهايو وبين ذراعيها طفلها، للوصول إلى الأراضي الحرة، مشهدًا أساسيًّا في المسرح الأمريكي، أثار دموع الجمهور، وروج لانتصار إبراهام لنكولن.
كان النجاح الذي حققته الرواية مثيرًا بالفعل، ليس فقط في الولايات المتحدة الأمريكية؛ فقد وصلت الرواية سريعًا إلى أوروبا وآسيا، وأصبحت أكثر الكتب مبيعًا بأكثر من 60 لغة. وتجاوزت مبيعاتها نصف مليون نسخة في عام 1857، إلى جانب النسخ غير القانونية منها.
وصارت الرواية موضوعًا لأعمال مسرحية متعددة نقلت إلى المجتمع الأمريكي معاناة العبيد السود، وكيف يتفرق الأزواج بين الملاك البيض، ويُحرم الأبناء من الآباء، ويتعرض الجميع لسوء المعاملة. وفتحت العيون على أولئك الذين رفضوا اعتبار السود بشرًا، وما تزال بعد مرور 150 عامًا على نشرها تعد أعظم كتابات القرن التاسع عشر، وتمثل نموذجًا للقوة الساحقة للأدب في خلق الوعي.
"هذه الرواية مستوحاة من أحداث حقيقية"
كان للقس بيتشر ستو 11 طفلًا تشبعوا بإيمانه الكاثوليكي وورثوا حبه للعمل الخيري، فأسست ابنته كاثرين عدة مدارس لتعليم النساء اللاتي حرمن في ذلك الوقت من التعليم. ودافعت ابنته إيزابيلا عن حق المرأة في الاقتراع. وتفوقت ابنته هارييت فحازت مزيدًا من الشهرة، وتأثرت بتربيتها المتدينة؛ فظهر العم توم بطل روايتها على بساطته مجسّدًا الأخلاق المسيحية، ويحظى باحترام الجميع. وتبدو أقواله حين يستشهد بالكتاب المقدس، ويتحدث عن تسامحه مع سيده ورفضه لأفكار الهروب، وإصراره على مواصلة طريق العبودية، وألا يتحرر سوى بالموت؛ كما لو كان قسًّا، يستطيع التأثير حتى فيمن هم أعلى تعليمًا منه.
الروائية الأمريكية هارييت بيتشر ستو
عاشت هارييت حياة أسرية طبيعية، وانتقلت بعد زواجها من القس كالفن ستو إلى سينسيناتي جنوب غرب ولاية أوهايو، حيث وُلد هناك أطفالهم السبعة، وتعرفت عن كثب إلى حياة العبودية. فقد كانت قصص العبيد وشهاداتهم ومحاولاتهم الهروب للوصول إلى الولايات الشمالية حدثًا يوميًّا في سينسيناتي، وهناك شهدت هارييت محاولة السيدة رانكين للهروب ليلًا بالقفز على قطع الجليد العائمة فوق النهر، وهو المشهد الذي سيصبح أساسيًّا في روايتها.
في عام 1850 صدر قانون يجيز استعادة العبيد الهاربين حتى بعد وصولهم إلى ولايات الشمال الحرة. فكان سببًا قويًّا آخر دفع هارييت لتحرير روايتها، وكانت قد انتقلت في ذلك الوقت إلى مدينة برونزويك في ولاية مين، وبدأت جهودها في التنديد بما يتعرض له حوالي 3 مليون من العبيد في مجتمع الشمال، الذي كان يعتقد أن المشكلة تتعلق فقط بولايات الجنوب.
سلمت هارييت الفصول الأولى من روايتها لـ "The National Era" وهي مطبوعة مناهضة للعبودية، وهكذا فيما كان من المقدر أن ينتشر العمل على نطاق صغير لا يتجاوز قراء الصحيفة، أحدثت الحلقات ضجة بين القراء جعلتها تنتشر سريعًا، ولدى اكتمال أجزائها في الصحيفة عام 1851 عرض أحد الناشرين طباعتها في جزأين لترى النور في مارس/آذار عام 1852.
داخل كوخ العم توم ..
تبدأ فصول الرواية حين يقرر السيد شيلبي أن يبيع بعض العبيد لديه كي يسدد ديونه، لتبدأ معاناة عبيده الذين طالما أحسن معاملتهم. يقع اختيار دائنه على الطفل ذي السنوات الخمس، ويضطر السيد لفصل الطفل عن أمه إليزا، ويقرر أن يبيع معه العم توم العجوز المخلص.
تقرر إليزا التمرد على القرار والهرب بطفلها، وتعرِض على العم توم الهرب معها، لكنه يفضل البقاء في طاعة سيده، حتى إن انفصل عن زوجته وأبنائه، وهكذا تواجه إليزا مخاطر الهرب وترمي بنفسها فوق جليد النهر لتبتعد بطفلها، إلى أن تجتمع بزوجها الذي سبقهما في الهروب إلى كندا، أما العم توم فيستسلم لمصيره في ثبات وصبر وإصرار على أن تنفذ "إرادة الرب".
مشهد من الرواية، يمثل فصل إليزا عن ابنها الصغير
طوال الرواية تتعرض الشخصيات لصعوبات الهرب والتخفي، أو تحمّل ظلم الأسياد، يقرر بعض العبيد الهروب، ويبقى العم توم مصرًّا على طاعة السيد مهما أساء، يتنقل العم توم من سيد لآخر، إلى أن يستقر في كنف رجل قاسٍ يسيء معاملته.
على الجانب الآخر تحاول أسرة توم الوصول إليه، إلى أن تعرف مكانه، ويقرر ابن السيد القديم شيلبي شراء توم وإعادته لأرضه وأهله، لكنه يصل متأخرًا ليجد توم قد أسلم الروح بسبب عقوبة فرضها عليه سيده ولم يتحملها العجوز.
في النهاية يقرر الرجل ألا يكرر معاناة توم مع أي من عبيده، وألا يمتلك عبيدًا بعد اليوم، فيسلِّم كلًّا منهم صك حريته، ويبقى كوخ العم توم رمزًا يذكّر بمعاناة العبيد، وسببًا لرفض الرق.
العبودية معاناة.. حتى لو كان "السيد" طيبًا
مع انتشار الرواية راحت ستو تطوف الولايات المتحدة وبريطانيا للترويج لها وعرض آرائها حول العبودية، في ذلك الوقت كان من غير المقبول أن تتحدث المرأة إلى الجماهير، فكان زوجها أو أحد إخوتها يتولى نقل آرائها في المناسبات التي أُقيمت على شرفها.
أكد بعض النقّاد أن قوة روايتها تكمن في توازنها، بحيث قدمت صورة السيد الأبيض على حقيقتها، ولم تنجرف لتقديم الجميع مثل الوحوش، لكنها في الوقت نفسه أوضحت كيف يمكن أن يعاني العبيد السود، حتى ولو كان مالكوهم أناسًا طيبين يحسنون معاملتهم. فيما رأى آخرون أن الكاتبة أسرفت في معاناة أبطالها، وصوّرت العبيد كما لو كانوا حتمًا ذوي خلق رفيع.
في السنوات التالية لصدور الرواية راح القوميون الجنوبيون يتهمون هارييت بعدم السفر إلى الجنوب مطلقًا، وبالتالي بعدم معرفتها بأوضاع العبيد الحقيقية، لكن ستو كانت تؤكد "أنا لم أؤلف رواية كوخ العم توم، نعم لقد دوّنتُ فقط ما شهدته بعيني في بعض ولايات الجنوب"، وأصدرت عام 1853 كتابًا بعنوان "مفتاح كوخ العم توم" أوضحت فيه بالتفصيل الحقائق التي اعتمدت عليها في روايتها.