بضربات تبدو عشوائيّة لكنّها محسوبة، تتحرّك يدا صالح الجراح لتشكّلان الرسم المراد نقشه، وبانسيابيّة وليونة تتحرّك قطع الخشب بين يديه، كأنّ بينهما تناغمًا وفهمًا مشتركًا بعد أكثر من خمسة عقود من العمل في هذا المجال، الذي يبدو أقرب إلى فنّ أكثر من مهنة يكسب منها قوت عياله، فكلّ حركة وكلّ لفّة لها دور في تشكيل وتصميم معين.
يقول الجرّاح، قبل بدء المراحل الأولى لصناعة المهباش، لا بدّ من الالتفات إلى نوع الخشب المستخدم وسلامته من أيّ عيب داخليّ، من ثَمّ قساوته التي تعتمد على جفافه التّام من الماء، وعدم وجود أيّ تشقّقات داخليّة وخارجيّة قدر الإمكان.
مما يُصنع المهباش؟
المهباش في الغالب يصنع من خشب البُطم، الذي يتميّز بقساوته وتحمّله لضربات الدقّ الشديدة، لكن نظراً إلى ندرة وجود شجر البُطم في الأردن، فإنه يلجأ إلى استخدام أنواع أخرى من الخشب، مثل: الكينا والسَلَم والخروب والمشمش والتين، وفق كلام صالح الجراح.
كانت تستغرق مراحل صناعة المهباش أكثر من شهر، بسبب قساوة الخشب واقتصار الأدوات المستخدمة على المنشار والقدوم فقط. أمّا الآن، فقد أسهمت التكنولوجيا كثيرًا في توفير الوقت، واختصرت مشوارًا طويلًا يمتد إلى أكثر من 30 يومًا كما يقول.
قبل نحو عامين، امتلك الجرّاح منجرة تساعده في تشكيل ملامح المهباش الأوليّة، إذ يحفر محيطه من الداخل ويفرّغه من المنتصف بعد قصّ الخشب، بعد ذلك يقتصر عمله على استخدام القدوم والمنشار في حفره من الخارج ورسم الأشكال ونقش الرسومات المميزة على خصره، ثمّ يدهنه ويضع على فوّهته صفائح نحاس أو فضّة أو ألمنيوم، مهمّتها تسهيل عملية نزول عصا الطحن داخله بسهولة حتى لا تتهشّم أطرافه.
يحضر الزبائن من الأردن وخارجه لشراء المهباش، خصوصًا من دول الخليج، ويفضّلونه على آلات طحن القهوة الحديثة، وذلك لحفاظه على نكهة القهوة المميّزة. وهناك من يشتريه ويقتنيه كفلكلور وتراث وزينة في المنزل، يوضح الجراح.
ومع أن الجراح يدرّب الراغبين في إتقان هذه الحرفة، لكنّه لا يتردّد في إبداء مخاوفه تجاه مستقبل هذه المهنة واندثارها، خصوصًا بعد أن هجرها الفلاحون، وأصبح اعتمادهم في طحن القهوة على آلات الطحن الحديثة، وعدم وجود مراكز مهنيّة تعنى بهذه الحرفة أيضًا، ويقول: "سأعمل على توريثها لأولادي كما ورثتها عن والدي، لأنّني بطبيعتي متمسّك بالأرض والعادات والتقاليد العربية الأصيلة، وللمحافظة على هذه المهنة من الاندثار".
المهباش والهوية الثقافية للشعوب
أستاذ الأنثروبولوجيا في جامعة اليرموك في الأردن، الدكتور عبد الحكيم الحسبان، يقول إنّ الفنون الحرفيّة التقليديّة جزءٌ مهم من النشاط الإنسانيّ، يعبرّ بها الإنسان عن هُويّته الثقافيّة والحضاريّة في أسمى معانيها من جميع النواحي الفنيّة الجماليّة، والاجتماعيّة والاقتصاديّة والإنتاجيّة، والانتماء إلى المكان والزمان.
ويضيف الحسبان أنّ الغاية من معظم الصّناعات اليدويّة كانت منفعيّة بحتة، ونشأ تلبية لحاجات الإنسان القديم ومتطلّباته، فمثلًا من عادات العرب وتقاليدهم الأصيلة إكرام الضيف، فكان لا بدّ من طحن القهوة وتحضيرها، ولأجل ذلك صُنع المهباش الذي اقترن بالكرم العربيّ.
تطوّر الحضارة أدّى إلى البحث عن سبل تعطي الحياة اليوميّة ديناميكيّة أسرع وأسهل، فظهرت الآلات الحديثة التي حلّت مكان المهباش، ممّا انعكس على أهميّة وجوده، وتحوّلت رغبة من يقتنيه لحاجته إليه إلى استخدامه كتحفة فنيّة، وفق ما تحدّث به الحسبان.
ويؤكّد أنّ قلّة العاملين في هذه الحرفة تعدّ مؤشّرًا خطرًا ينبّئ بيوم سنفقدها فيه، لأنّها حرفة تنمّ عن أصول تاريخيّة خاصة ومنفردة، وتعبّر عن هويتنا، لذا يجب أن تتطور هذه الحرفة، كي نشجّع الناس على شراء قطعة بمواصفات جمالية فائقة. ويرى الحسبان أن للخطوط المرسومة على المهباش دورًا في استلهام صناعة منتجات أخرى تسجّل تراث الأردن عبر الأجيال.
