مررت بالقدس مرات قليلة، عابراً في سيارة كانت تقل أسرتنا من الجسر إلى قريتنا جنوب الخليل، لم نترجل قط من السيارة، ومع أن المرة الأخيرة التي عبرت خلالها شوارع القدس قبل أن تتعرض للإغلاق والفصل عن الضفة الغربية تعود إلى نحو ثلاثين عاماً، فإن المدينة ما زالت حاضرةً في ذاكرتي، كان الضباب يلفها في كل مرة، مع أن الزيارات كانت في الصيف أثناء العطلة المدرسية.
وعندما دخلت المراهقة كنت أخطط كثيراً لزيارة القدس، والطريقة الوحيدة كانت دخولها تهريباً، ويبدو أن أحداً لم يكن ليغامر بأن يفعل ذلك، فأنا في النهاية قادم من بعيد لقضاء بضعة أيام من أجل المحافظة على حيازتي للهوية وحق دخول فلسطين الذي كان الجانب (الإسرائيلي) يمكن أن ينتزعه في حال التغيب لأكثر من ثلاث سنوات.
في السابعة عشر من العمر، كان يمكن أن أنطلق من قريتي السموع إلى كل مكان في الضفة الغربية باستثناء القدس، وكانت المحطة الأولى بيت لحم، وسبب الزيارة ببساطة البحث عن دار عرض سينمائي وكانت بيت لحم المدينة المرشحة لذلك بالنسبة لي، فأنا أرغب في البقاء في الضفة، وكذلك أحب أن أعيش طقوسي الشخصية، ولكن مع الدقائق الأولى فقدت اهتمامي بالبحث عن السينما، فقدت اهتمام بأي شيء ودخلت في حالة تشبه التي تتلبس السائرين نياماً، إنه نفس الضباب، وجدت نفسي أحاول الإمساك به، من أين يأتي؟ كيف يهبط، إنه لا يهبط من السماء، ولا يصعد من الأرض، تشككت للحظة أن الضباب يخرج من داخلي، وأنه كان كذلك في القدس، وما زال لا يمكنني الجزم بذلك، ولكن أميل إلى أنه ضباب حقيقي لأنه كان يتلاشى ما أن تتجاوز الساعة العاشرة صباحاً لتطل شمسٌ مختلفة عن أي شمس عرفتها في أي مكان آخر من العالم.
وجدت نفسي مقابل كنيسة المهد، يفترض أنها مقامة على المكان الذي شهد ولادة السيد المسيح، وبها مجموعة من الكهوف الصغيرة، افترضت أنه ولد في واحدة منها، ولعل الكثيرين يحملون ذلك الافتراض ويرتاحون إليه، كانت الكنيسة الأولى التي أدخلها في حياتي، وبقيت الكنيسة الأجمل، هي وكنيسة أخرى في إحدى ضواحي مدراس (تشيناي) الهندية، تلك الكنيسة لم تكن تضم كرسياً واحداً، كانت حصائر تفرش أرضها، وكانت تماثيل السيدة العذراء والسيد المسيح بيضاء وملونة وخزفية خلافاً للتماثيل التي رأيتها في الكنائس الغربية.
لنعد أدراجنا إلى بيت لحم، المدينة ليست متخمة بالألوان على أية حال، تبدو مبانيها وكأنها أشجار حجرية نبتت من الأرض، ولأوراق أشجارها ذلك اللون الداكن الزيتوني، والمدينة كذلك مقتصدة في الرائحة وليس إلا وقارٌ يتدافعه البخور والطعام الشعبي الذي يعد على شيء من الخجل وكأن حزن المكان وجلاله لا يجب أن يقطعه شيءٌ من أغراض الدنيا مثل الطعام، وطالما بقيت الألوان مختزلة والروائح شحيحة، فما الذي يمكنه أن تفعله حواسٌ مثل التذوق واللمس، وتبقى حاسة السماع المستسلمة لترنيمة الجميع يلتقط شيئاً منها، ولكن لا أحد من قبل سمعها بوضوح أو أحاط بما تقوله.
بيت لحم، مع ذلك، ليست مدينة مطفأة، وعلاقتها المحدودة مع الحواس المادية تتفجر في علاقة عميقة ومكثفة مع الروح، مع الحواس الخفية، إذ كنت أستشعر بأن عروقي العربية والرومانية والسلافية تكاد تهرب من عروقي وشراييني ليرتمي كلٌ منها في أحد أزقة القتلة أو الشهداء، ليتعرف كل جينٍ شارد داخلي على أسلافه، فكرت أنني أرى المركبات المدججة التي تتجمع في الطريق إلى هرمجدون، شعرت بأن الضباب ليس إلا بقايا من نور حمله السيد الذي ارتقى في قيامته إلى السماء، وسمعت ملائكة تصطخب داخلي وشياطين تعربد، ولمست اللحم الروحاني للكائن الذي أعيش داخله على قمة المملكة الحيوانية، في بيت لحم القصة لم تكن زجاجاً ملوناً ولكن شموساً مستولدة من صانع عاشق كان يلملم أطراف الحكاية لتبقى شاهداً على المدينة وقصة سيدها الذي أخذته السماء، وترك وراءه الضباب والغبار في صعوده، والذي لم أعد متأكداً اليوم أكان حقيقةً يومياً وطقساً تمارسه الأرض في وداعه، أم حفلة في داخلي مع تعطل الحواس الذي فرضته علي المدينة، فبعد ساعات من المشي والمشي بغير شعور تسلقت عظامي كلها أطنان من التعب المفاجئ عندما صعدت السيارة لأعود إلى السموع بعد يوم أعدت تكراره لأكثر من مرة، وفي كل مرة، كنت مأخوذاً ومندهشاً ونشواناً كالغواص الذي يناديه البحر فلا يملك من أمره شيئاً إلا أن يمضي في غوصه حتى يدخل الموت راضياً وسعيداً، الجيد في أمر بيت لحم، أنها اكتفت من الموت والولادة معاً، فلا شيء بعد سيدها الذي صعد وقام حقاً.
